زيارة سرية الى الناصرية

هادي جلو مرعي – مصرنا اليوم :

هادي جلو مرعيالجغرافيا، وبرغم مرور بضعة آلاف من  السنين تبدو كفتاة مطيعة تحضر واجباتها جيدا، وهي أقل عرضة للتزييف من التاريخ الذي تحول الى مايشبه كرة القدم التي تركلها الاقدام، وتنتقل بها من مكان الى آخر في الملعب الواسع، والجغرافيا تمر بها الجحافل، وتتركها كما هي، ولكن تلك الجحافل تكتب التاريخ كيف تشاء، وعلى مزاجها الرحب، ولاأعرف بالضبط ماالذي شدني لأصل طريقا من الناصرية في جنوب العراق الى الناصرة في شمال فلسطين، ربما لموسيقى تجمع الإسمين، أو لأن إبراهيم ولد في الناصرية، وعاش حوالي الناصرة، ومدن فلسطين الأخرى، وترك إرثا من الأبناء الأنبياء الذين توارثوا المدن، وأورثوها هيبة، وبقيت شاهدا على أنهم مروا من هنا، أو ماتوا، ودفنوا هنا.الناصرية تقع الى الجنوب من بغداد، ولكنها بعيدة في ذلك الجنوب، وغريبة، مررت بها في 23 و 24 تموز عام 2021 وبت ليلتي الأولى في فندق بسيط، وتجولت في شوارعها ليلا مشيا على الأقدام، ونهارا في السيارة، كانت تبدو كعجوز تحتضر، او كمقبرة تتخللها شوارع واسعة، وسألت نفسي: ماذا لو كنت من أبناء المدينة، وكان عمرى بعمر الشبان المحتجين؟ هل كنت سأتظاهر فقط؟ فكرت في إنني يمكن أن أنتحر، أو أهرب من المدينة الى مكان آخر مع أن المدن والقرى تبقى آسرة لبنيها الذين يتوقون لها حتى حينما يهاجرون الى أقصى الأرض، وحين يبتعدون لسبب ما. وحين دخلت بغداد فجرا شممت منها رائحة الكاردينيا.
الفرق بين الناصرة والناصرية ليس بحرف الياء، بل هوأبعد بكثير، فالناصرة مهبط البحر، وسقوفها قرميد أحمر، بينما لاتستطيع الناصرية إتقاء حرارة الشمس، ولايعرف بنوها أين تذهب خيراتهم، وكيف تسلب منهم، ولماذا لايتم الإستثمار فيها، ولايجري تعميرها، فأهلها يتسابقون في إكرام الضيف، ويتوهجون غيرة وحمية وشجاعة وعنفوان ورجولة ويستحقون الحياة والكرامة والعيش الرغيد الذي حرمت منه أجيال وأجيال منذ تأسست، ومارست الحياة.
نظرت في وجه (عادل فضل) وهو شاب، وإبن لشيخ عشيرة معروف، كان يقبع في كرسيه المتحرك، هو مصاب بالشلل برصاصة أثناء الإحتجاجات، ويحتاج الى العلاج في الغرب، ينظر الى أصدقائه الشبان وهم يلعبون كرة القدم، ويحلم بالشفاء ليعود الى حياته الطبيعية في مايشبه المعجزة التي قد لاتتحقق مع طول المدة، وتأخر العلاج.. لاتكفي الكلمات للحديث عن عذابات الناصرية، وكنت حزينا وأنا أتنقل فيها، ولم أبلغ صحفييها بوجودي، ولاأصدقائي هناك. قررت أنها زيارة سرية الى الناصرية.

Loading

اترك تعليقاً

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com