صراعُ الهُويّات وحُلُم المواطنة – بقلم الاعلامية سفانة الديب
كلُّ إنسانٍ دون استثناء، يتمتع بهُوية مركّبة ومتراكمة، ويكفيه أن يطرح بعض الأسئلة ليستخرج كسوراً منسية وتشعباتٍ لاشك فيها، وليكتشفَ أنّه مركّبٌ وفريدٌ ولا يُستبد.
يجب ألاّ يشعر أحدٌ بأنّه مهدّدٌ أو مُحتقر، لدرجة أن يكون مضطراً لأن يواري بخجل ديانته أو لونه أو لغته أو اسمه أو أي عنصر مكوّن لهُويته، لكي يتمكن من العيش وسط الآخرين.
فلماذا يجب أن يترافق تأكيدُ الذّات مع إلغاء الآخرين في أغلب الأحيان؟ وهل ستكون مجتمعاتنا عرضةً للتوتر والتّناحر والعنف إلى الأبد؟
إنَّ كلَّ المذابح التي ارتُكبت في السّنوات الأخيرة، بالإضافة إلى معظم النزاعات الدّموية مرتبطة بملفاتٍ انتمائيةٍ شائكةٍ ومعقّدة، وضحاياها في الأغلب، الشّعوب نفسها، بصورة تبعثُ على اليأس، ومنذ الأزل.
وهنا يتجلى سؤالٌ جوهريٌّ وعميق.. هل شهوة السّياسة والنّفوذ هي ذريعةُ حروب الهُويّة؟
يقول أمين معلوف في كتابه “الهُويّات القاتلة”: الهُويّة مؤّلفة من انتماءاتٍ متعدّدة، فهُوية الإنسان ليست سلسلة من الانتماءات المستقلة، وليست رُقَعاً، بل رسمٌ على نسيجٍ مشدود، ويكفي أن يُنتهك انتماءٌ واحد لينفعل الإنسان بكلِّ كيانه.
فعند الاعتداء على الإنسان بسبب لونه أو دينه أو لغته أوأحد هذه العناصرالمُكونة لهُويته يمكن أن يدفعَه ذلك للانتماء لهُويةٍ قاتلة، يظهر من خلالها التّناحر والقتل.
ربما كانت هُوية الإنسانية واحدة، لذلك كان الدفاع عن الهُوية من قبل الآخرين ذرائع لتبرير القتل وممارسة العنف، وانتصار الإجرام على السّلام في معركة الإنسان الداخلية على اختيار هُويته، ولكن سرعان ما تنتهي معارك الدفاع عن الهُوية، ليظهرما أخفته من ذرائع حقيقية خلف تلك الحروب الطاحنة التي كان سببها، شهوة السّياسة ورغبة السيطرة وحب النفوذ.
نحن اليوم أمام خيارين، إمّا عولمة ثقافية إنسانية تزول معها الحدود والعوائق الفاصلة بين البشر، بمثابة هُوية مركبة ومتحولة متطورة في وجه الهُوية المغلقة، وإمّا عولمة قائمة على الهيمنة والاستحواذ والقهر.
والخِيار بين أيدينا.. هل سنختار هُوياتنا القاتلة التي تقتلنا إنسانيا في المقام الأول ونذهب إلى كارثة لا عودة منها؟ أم نعي الخطر ويوحّدنا الإنسان في داخلنا؟
الهُويّات المتعدّدة الموجودة في بلد ما.. يجب أن تكون جسوراً للتلاقي والبناء والتسامح بين المجتمعات الأصلية والبيئة المتعددة الانتماءات، لا أن تكون بمثابة جدرانٍ من الاختلافات وساحاتٍ من الصّراعات، وليس من الصّعب على العرب أن يُنتجوا هُوية منفتحة على الآخر، وذلك لوجود النُّخب العربية المتعددة والكفاءات الكثيرة القادرة على صناعة ذلك من دون أن تضيع الحقوق.. وهنا يكمن أساس حلّ مشكلة الهُويّة.
فالعلاقة بين الأنا والآخر ليست بهذه الحدّيّة والإقصائية التي يتصورها أصحاب الرؤى الشمولية والمشروعات الأيديولوجية إما مع أو ضد، فالوقائع الإنسانية والاجتماعية تثبت أن هُويات الناس أضحت مركبة، بمعنى التداخل الثقافي والاجتماعي والنفسي بين الأنا بكل مستوياتها، والآخر بكل مستوياته ودوائره.
والأمثلة الناجحة كثيرة، فالمجتمعات المستقرة سياسيّاً واجتماعياً، هي تلك التي تعاملت بمرونة وتسامح مع خصوصيات أطرافها ومكوناتها، ومن يبحث عن الاستقرار بعيداً عن ذلك، لن يجني إلاّ المزيد من الفوضى والاضطراب على كل الأصعدة.
ولكلّ ذلك، فإنّ حجر الأساس والخطوة الأولى في مشروع الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي، هي إعادة بناء العلاقة بين الهُويات الفرعية على أسس الحوار والاحترام المتبادل، وصولاً إلى مبدأ المواطنة الذي يحتضن الجميع، ويجعلهم على حدٍّ سواء في كل الحقوق والواجبات… وبالتّالي نتجاوز صراع الهوُيات لنحقّق حُلُم المواطنة.