في أعماق نفس كل إنسان كنوز ودفائن كثيرة، ومواهب وقدرات كبيرة، وقوى نفسية خارقة.و في أغوار اللاوعي طاقات نفاذة وقوى مبدعة تستطيع أن تقود الفرد في طريق النجاح لو أحسن استثمارها.و لكن هذه القوى النفسية في الحقيقة لا تأتي الإنسان طوع إرادته وهي قد تزول أو تضعف حين يريد الإنسان أن يقويها في نفسه وهي قوى لاشعورية تنبعث من أعماق العقل الباطن.ومن المعلوم أن الوعي شيء قشري سطحي مقابل اللاوعي أو العقل الباطن الذي يتحكم فينا بآليات غير مفهومة ولا تخضع للمنطق.ومن المعلوم أن الوعي واللاوعي أو العقل الباطن عند الإنسان لا يشتغلان معا وهما يشبهان المتغيران في معادلة رياضية واحدة وهي عند الرياضيين معادلة غير قابلة للحل.وكذلك يشكل الإنسان معادلة غير قابلة للحل عمليا. ولأهمية ظاهرة الحدس فقد أثارت اهتمام الباحثين والمفكرين والفلاسفة منذ أقدم عصور الفكر.فنجد الاهتمام بها في الفلسفة اليونانية بوصفها من أهم عناصر نظرية المعرفة كما نجد الاهتمام بها في الفلسفة المشائية وأما في القرون الوسطى فقد اهتم بالحدس ابن سينا ثم الغزالي ثم عاد الاهتمام بالحدس في أوروبا مع (ديكارت) وعرفه بأنه:laquo; التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه بدرجة من الوضوح والتميز لا يبقى معها مجال للريب.. أو هو التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده raquo; ومن بعد ديكارت اهتم بالحدس باسكال ومالبرانش وهوبز وليبنتز وسبينوزا وشوبنهاور، كما ظهر هذا الاهتمام في الفلسفة النقدية عند (كانت) أما في القرن العشرين فقد برز الاهتمام الشديد بالظاهرة الحدسية لدى برجسون وكروتشه وباشلار وهاملتون وديوي وغيرهم ممن عالجوا نظرية المعرفة أو المشكلات الإدراكية. إن الحدس الخارق شيء دقيق فلا تستطيع الألفاظ أن تصفه.يقول ( هنري برجسون): laquo; الحدس هو التعاطف العقلي الذي ينقلنا إلى باطن الشيء ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة التي لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ raquo;. والحدسية في الفلسفة هي مذهب من يرون أن للحدس المكان الأول في تكوين المعرفة.وأما عالم الرياضيات الفرنسي المعروف (هنري بوانكاريه) يقول باختصار جامع:laquo; نبرهن بالمنطق ونخترع بالحدس raquo;. أما عالم النفس الشهير
( كارل يونغ) فيبين مفهومه لظاهرة الحدس فيقول: laquo; الحدس سياق غير شعوري من حيث أن نتيجته انفجار محتوى غير واع في الواعية.. فكرة مفاجئة أو شعور بأن شيئاً ما سيحدث وهو يشبه سياق الإدراك لكن الإدراك سياق غير شعوري خلافاً لفعاليات الحواس والاستبطان وهذا ما يجعلنا نتكلم عن الحدس باعتباره فعل فهم غريزيا وسياقا شبيها بسياق الغريزة مع الفرق هو أن الغريزة دفع يهدف إلى تنفيذ فعل بالغ التعقيد على حين أن الحدس هو فهم غير شعوري لوضع بالغ التعقيد لذلك كان الحدس بمعنى ما في موقع معاكس للغريزة raquo;. يذكر ( كارل يونغ) مثالا في كتابه (البنية النفسية للإنسان) يؤكد أن الإنسان إذا كان مشغولا انشغالا شديدا بأية قضية واستعصت حلها عليه في اليقظة فإن احتدام عقله شبه الواعي يستمر في العمل حتى أثناء النوم فيحصل له الحدس الخارق فيقول:laquo; في رأيي أن جميع الفعاليات التي تحدث في الواعية تظل تعمل في الخافية أيضا.. هناك أمثلة كثيرة على مشكلات فكرية استعصت حلولها في اليقظة ووجدت حلولها في الأحلام.. أعرف خبير حسابات ظل مدة عشرة أيام وهو يحاول بلا طائل أن يكتشف مسألة إفلاس احتيالي وظل ذات يوم يعمل عليها حتى منتصف الليل ولكن دون أن يفلح ثم ذهب إلى النوم.. وفي الساعة الثالثة صباحا أحست زوجته أنه نهض وذهب إلى مكتبه تبعته فرأته يسجل بعض الملاحظات ثم عاد إلى سريره بعد حوالي ربع ساعة وفي الصباح لم يتذكر شيئا، ولما استأنف عمله اتضح له أن على مكتبه عدداً من الملاحظات مكتوبة بخط يده تسوي المشكلة تسوية نهائية raquo;.وأما الفيلسوف الأمريكي ( بيري) فيرى في كتابه (آفاق القيمة) أن القدرة الحدسية التي تمكن الأدباء والرسامين وغيرهم من مبدعي الفنون هي ذاتها القدرة التي تمكن العلماء من رؤية الاتساق الذي يجمع بين الوقائع ويزيح الستار عن الحقائق المخبوءة. فيقول: laquo; إن هذا اللغز ليس وقفا على الجزء الجمالي من الحياة فلا تزال رؤية العالم الكبير الذي تنعقد فيه حقائق واكتشافات في وحدة متسقة كانت حتى ذلك الحين لا رابطة بينها.. هذه أيضاً لغز بيد أن هناك ألغازا صغيرة في الحياة اليومية: التذكر المفاجئ لما نسي.. العبارات الموفقة والخواطر المبتكرة.. إن أقصى ما يمكن أن يقال هو أن التجارب الماضية والذكريات المختزنة تبلور نفسها فجأة في وحدات منتظمة تكون شيئا جديدا في عالم الوعي إن الخيال ليس مجرد مخزن لشظايا أو نتف أو أشتات ولكنه نشاط إبداعي يبدو انه تلقائي raquo;. ويقول العالم الفرنسي الشهير كلود برنار في كتابه (مدخل إلى دراسة الطب التجريبي):laquo; ما من قاعدة يمكن الاعتماد عليها في الإيحاء إلى العقل بفكرة صحيحة مثمرة إلا وتكون للمجرب بمثابة حدس يوجه الذهن سلفاً نحو بحث موفق.. وكل ما يمكن قوله بعد بزوغ الفكرة هو كيفية إخضاعها للقواعد المنطقية الدقيقة.. أما ظهور تلك الفكرة فقد كان تلقائيا محضا وطبيعتها فردية خاصة بها.. وهذه الفكرة عبارة عن شعور خاص عن شيء ذاتي مقوم لعبقرية كل فرد وما لديه من روح الابتكار والإبداع ولا يشاركه فيها أحد سواه.. وتبدو الفكرة الجديدة في صورة علاقة جديدة أو غير متوقعة يرى الذهن وجودها بين الأشياء..
ومن العلاقات ما استدق ولطف بحيث لا تحسه ولا تفهمه أو تكشف عنه إلا الأذهان الثاقبة ذات المواهب الممتازة والأذهان الموهوبة أو التي أتيح لها من الظروف العقلية ما جعلها أحسن استعدادا وأفضل تهيئة raquo;. إن الحدس موضوع فلسفي علمي دقيق يصعب إدراك معناه بالاطلاع على قواميس اللغة العربية لأنها لا تعطي لكلمة (حدس) هذا المضمون الكبير فالحدس في اللغة هو التخمين والظن والتخيل والتوهم والتوقع والتصور والفراسة والسبر والقصد والوطء والغلبة في الصراع والسرعة في المشي والمضي مع طريق غير مطروق وهو أيضا اضجاع الشاة للذبح واناخة الناقة ويقال: بلَغت به الحداس أي الغاية والَمحدس المطلب والحدس هو حَرز الشيء وتقديره ويقال تحدَّس الرجل الأخبار تحسَّسها بخفية والرجل الحدُوس هو الرجل المغامر.هذه بعض معاني كلمة (حدس) ومن الواضح أنها لا تستطيع التعبير بوضوح وتحديد عن المعنى العلمي الفلسفي أو الأدبي أو الفني أو الأدائي لكن لا يوجد بديل آخر للتعبير عن هذا المعنى العميق والدقيق غير أن القارئ يستطيع أن يفهم المعنى من السياق، أما الكاتب فيستعين بألفاظ أخرى مثل الاستبصار والإلهام والوثوب الذهني. والمفكر المعروف (إبراهيم البليهي) يقول في تعريفه للحدس الخارق والصائب: laquo;هو ضوء يسطع في الذهن فجأة وبقوة فيفتح أبواب الحقيقة للباحثين ويمد العاملين بالإلهام، وهو ذروة المصادر الأربعة الرئيسية للمعرفة.