في صباح يوم الإثنين الموافق 5 من شهر يونيو سنة 1967 استيقظ المصريون علي دوي المدافع وضجيج الدبابات وأزيز الطائرات التي ملأت سماء مصر وتحول نهار ذلك اليوم إلى ضباب وظلام دامس حيث قام العدو الإسرائيلي في الساعة 8:45 من صباح ذلك اليوم ولمدة 3 ساعات من هجوم متواصل بغارات جويّة تركزت في سيناء والدلتا والقاهرة ووادي النيل، وقد تم توزيع الغارات على ثلاث موجات، تم تنفيذ الغارة الأولى، بأكثر من 170 طائرة، والثانية بأكثر من 160 طائرة والثالثة بأكثر من 150 بإجمالي 492 غارة جوية، وقد دمّر العدو أكثر من 20 مطاراً حربياً وما لا يقل عن 85% من الطائرات المصرية وهي جاثمة على الأرض، وانتشرت أخبار الهزيمة في كل الأرجاء وسطر التاريخ علي جدرانه نكسة 67، لقد كانت الحرب في ذلك اليوم من طرف واحد، حيث تجرّعنا مرارة الهزيمة المروعة، التي جلبت علي مصر العار وعدم الاستقرار.
لكونها هزيمة بدون حرب، تذوقنا مرارة الانكسار، من العدو الغاشم، مما اثار حفيظة الجيش والشعب المصري والعالم العربي.
وانطلقت حرب الاستنزاف التي كبّدت العدو خسائر جسيمة، أشهرهم عملية إيلات، وأثناء تلك العمليات، كنا نلملم شتات شعبنا ونشدد من عزم جيشنا، وقلنا خسرنا معركة، ولكننا لم نخسر الحرب.
قد نسقط لكن لا نستسلم، والأعظم أن ننهض من جديد، وقد ننهزم في معركة لكن الأعظم أن نحرر نصراً عظيما.. تماماً كما ننام لكي نصحو بأكثر قوة ونشاطاً.
وهذا ما تم في ست سنوات، تكاتفنا وعزمنا وقلنا لا ينبغي أن تكون الهزيمة مصدر إحباط، بل يجب أن تكون حافزاً لمواصلة التخطيط حتى الانتصار، وأن العرق في التدريب يوفر الدم في الحرب، وقد جاء يوم السادس من أكتوبر سنة ١٩٧٣ وفى تمام الساعة الثانية بعد الظهر كنا على موعد مع القدر، ليسجل لنا تاريخاً جديداً على صفحات الزمن، ليصبح في حياة المصريين يوماً تاريخياً، فيه أشرقت شمس الانتصار، في ذلك اليوم اختلّت كل موازين القوي، وخابت كل التوقعات، وسقطت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر.
يومٌ تلاشى فيه ظلام الهزيمة، يومٌ رفع فيه المصريون علم مصر على أرض سيناء، ورفعت رؤوس المصريين على العدو الغاشم، حيث كانت إسرائيل تروج للجميع أنها القلعة العسكرية التي من المستحيل اختراقها أو الوصول إليها، وفي تحدٍ صارخٍ من القوات المصرية، وعزيمتهم الفولاذية التي فاقت كل التوقعات، هجموا كالأسود يعبرون قناة السويس ويحطمون خط بارليف العظيم، وخلال ست ساعات شلّت قوى العدو الذي لا يقهر، وقد تعرض الشعب الإسرائيلي لصدمة عنيفة قال عنها بعض المحللين العسكريين: أنها كانت أشبه بالزلزال المدمر داخل إسرائيل، وتمثلت الخسائر الإسرائيلية في دمار 400 مدرعة وما يقرب من 8000 إلى 10.000 قتيل، وقرابة من 20 ألف جريح، وتم تدمير أكثر من 1000 دبابة، كما فقدوا أكثر من 372 طائرة حربية وحوالي 25 مروحية، و23قطعة بحرية وأكثر من 600 دبابة كما أنها خسرت أكثر من 1,593 مدفعاً وقد قدرت الخسائر المالية بأكثر من 800 مليار دولار حين ذاك.
لم يكن نصر أكتوبر وليد اللحظة والصدفة لقد مرّ على مرارة الهزيمة ست سنوات من 67: 73 تلك السنوات الست بذلت فيه اقصى جهد من التدريب والبذل والتضحية والدراسة الاستراتيجية وتم اختزالها، في ست ساعات حرب، لقد كانت ساعة الحرب تعادل سنة من التدريب ومن هنا جاء النصر والحقنا بالعدو الغاشم خسائر فادحة، وقد اصبح نصر أكتوبر مدرسة حربية كاملة الأركان تدرس في الكليات الحربية، لقد كانت حرب من نوع فريد، ونقطة تحول في تاريخ مصر والقوات العسكرية المصرية وقد أبرزت تلك الحرب كفاءة المقاتل المصري، ومدى ارتفاع مستواه القتالي واصبح ذلك اليوم عيداً قومياً، ولم تكتفي مصر بهذا النصر العظيم بل اخذت على عاتقها باسترداد كل شبر من أرض الفيروز، وقلنا أن الانتصار في المعارك ليس هو النجاح التام بل عليك أن تكسر مقاومة العدو بدون قتال.
وبادرنا بالسلام وذهبنا إلى ديار العدو. يد تحمل أعلام السلام واليد الأخرى تحمل أعلام النصر. كانت خطوة تاريخية تحسب من أعلى أوسمة الشرف التي قام بها الرئيس الراحل أنور السادات حيث عقد معاهدة السلام. ورجعت ارض الفيروز كاملة بعودة طابا في مارس عام 1988، وفي 19مارس 1989م رفع الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك علم مصر على طابا، آخر جزء من الأراضي المصرية وبذلك تكون مصر قد استردت بموجب اتفاقية السلام 4500 كيلو متر من أرض سيناء التي فقدت منذ 5 يونيو67 وبهذا تكون الأراضي التي عادت بالسلام أكثر من الأراضي التي عادت بالحرب.
ولكن مازالت الحرب مستمرة، لكن العدو مختلف، قد يكون العدو جماعة او شخص، قد يكون كاتب، ولكنه يكتب وينشر الغام، وقد يكون معلم لكنه يغرس في أجيال الكراهية والحقد وعدم قبول الآخر، وقتل المواهب وقد يكون مهندس، فيرسم ويخطط كيف يدمر أبناء الوطن، وكم من شباب ينشرون ويروجون الاشاعات المغرضة، فكم من حروب نفسية تندلع من طيات الكلمات التي تتغذى على سوء الظن وعدم المعرفة وتعصف كالرصاص، وتصيب الحمقى الذين أصبحوا ضحايا للجهل. وهذا يحتاج مجهود أعظم وتكاتف من كل المؤسسات المعنيّة، وستظل مصر منصورة وعظيمة بقيادتها السياسية وجيشها وشعبها. تحيا مصر
د. القس/ جرجس عوض
راعى الكنيسة المعمدانية بالقاهرة